فصل: سئل: عن قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة في جماعة هل هي مستحبة أم لا‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وَسُئِلَ ـ رَحمه الله ـ عن رجل قال‏:‏ إذا دعا العبد لا يقول‏:‏ يا الله، يا رحمن‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للَّه، لا خلاف بين المسلمين أن العبد إذا دعا ربه يقول‏:‏ يا الله، يا رحمن، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه‏:‏ ‏(‏يا الله يارحمن‏)‏ فقال المشركون‏:‏ محمد ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين، فقال الله تعالي‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي‏}‏ أي المدعو إله واحد، وإن تعددت أسماؤه، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏‏.‏

ومن أنكر أن يقال‏:‏ يا الله يا رحمن، فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ عن امرأة سمعت في الحديث ‏(‏اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ناصيتي بيدك‏)‏ إلى آخره فداومت على هذا اللفظ، فقيل لها‏:‏ قولي‏:‏ اللهم إني أمتك، بنت أمتك، إلى آخره، فأبت إلا المداومة على اللفظ، فهل هي مصيبة أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

بل ينبغي لها أن تقول‏:‏ اللهم إني أمتك، بنت عبدك، ابن امتك، فهو أولي وأحسن‏.‏ وإن كان قولها‏:‏ عبدك ابن عبدك له مخرج في العربية، كلفظ الزوج، والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ عن رجل دعا دعاء ملحونًا، فقال له رجل‏:‏ ما يقبل الله دعاء ملحونًا‏؟‏

فأجاب‏:‏

من قال هذا القول فهو آثم مخالف للكتاب والسنة، ولما كان عليه السلف، وأما من دعا الله مخلصًا له الدين بدعاء جائز سمعه/ الله، وأجاب دعاءه سواء كان معربًا أو ملحونًا، والكلام المذكور لا أصل له، بل ينبغي للداعي إذا لم تكن عادته الإعراب ألا يتكلف الإعراب، قال بعض السلف‏:‏ إذا جاء الإعراب، ذهب الخشوع، وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء، فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس به، فإن أصل الدعاء من القلب، واللسان تابع للقلب‏.‏

ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه، أضعف توجه قلبه، ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاء يفتح عليه، لا يحضره قبل ذلك، وهذا أمر يجده كل مؤمن في قلبه‏.‏ والدعاء يجوز بالعربية، وبغير العربية، والله ـ سبحانه ـ يعلم قصد الداعي، ومراده، وإن لم يقوِّم لسانه، فإنه يعلم ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تنوع الحاجات‏.‏

وَقَال ـ رَحمَه الله‏:‏

 فَصْــل

وأما السلام من الصلاة، فالمختار عند مالك ومــن تبــعه من أهل المدينــة تســليمة واحدة في جميع الصلاة، فرضها ونفلها، المشتملة على الأركان الفعلية، أو على ركن واحد‏.‏

/وعند أهل الكوفة‏:‏ تسليمتان، في جميع ذلك، ووافقهم الشافعي‏.‏

والمختار في المشهور عن أحمد‏:‏ أن الصلاة الكاملة المشتملة على قيام وركوع وسجود يسلم منها تسليمتان، وأما الصلاة بركن واحد، كصلاة الجنائز، وسجود التلاوة، وسجود الشكر‏:‏ فالمختار فيها تسليمة واحدة، كما جاءت أكثر الآثار بذلك‏.‏

فالخروج من الأركان الفعلية المتعددة بالتسليم المتعدد، ومن الركن الفعلي المفرد بالتسليم المفرد‏.‏ فإن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة، فما طولها أعطي كل جزء منها حظه من الطول، وما خففها أدخل التخفيف على عامة أجزائها‏.‏

 وَسُئِلَ عن رجل‏:‏ إذا سلم عن يمينه يقول‏:‏ السلام علكيم ورحمة الله، أسألك الفوز بالجنة، وعن شماله‏:‏ السلام عليكم، أسألك النجاة من النار، فهل هذا مكروه أم لا‏؟‏ فإن كان مكروهًا، فما الدليل على كراهته‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للَّه، نعم‏!‏ يكره هذا؛ لأن هذا بدعة، فإن هذا / لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من العلماء، وهو إحداث دعاء في الصلاة في غير محله، يفصل بأحدهما بين التسليمتين، ويصل التسليمة بالآخر، وليس لأحد فصل الصفة المشروعة بمثل هذا، كما لو قال‏:‏ سمع الله لمن حمده، أسألك الفوز بالجنة، ربنا ولك الحمد، أسألك النجاة من النار، وأمثال ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ بَاب الذكر بَعْد الصَّلاَة

 وَسُئِلَ ـ رَحمه الله ـ عن حديث عقبة بن عامر، قال‏:‏ ‏(‏أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة‏)‏ وعن أبي أمامة قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أي الدعاء أسمع‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏جوف الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبة‏)‏‏.‏ وعن معاذ بن جبل؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فقال‏:‏ ‏(‏يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول‏:‏ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‏)‏ فهل هذه الأحاديث تدل على أن الدعاء بعد الخروج من الصلاة سنة‏؟‏ أفتونا وابسطوا القول في ذلك مأجورين‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد للَّه رب العالمين، الأحاديث المعروفة في الصحاح والسنن والمساند تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاته قبل الخروج منها، وكان يأمر أصحابه بذلك ويعلمهم ذلك، ولم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعًا لا في الفجر، ولا في العصر، ولا في غيرهما من الصلوات، بل قد ثبت عنه أنه كان/ يستقبل أصحابه، ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة‏.‏

ففي الصحيح أنه كان قبل أن ينصرف يستغفر ثلاثًا، ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏)‏‏.‏ وفي الصحيح من حديث ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهلل بهؤلاء الكلمات‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون‏)‏‏.‏ وفي الصحيح عن ابن عباس‏:‏ أن رفع الناس أصواتهم بالذكر كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي لفظ‏:‏ كنا نعـرف انقضاء صلاته بالتكبير‏.‏

والأذكار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها المسلمين عقيب الصلاة أنواع‏:‏

/أحدها‏:‏ أنه يسبح ثلاثًا وثلاثين، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويكبر ثلاثًا وثلاثين‏.‏ فتلك تسع وتسعون ويقول تمام المائة‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‏)‏‏.‏ رواه مسلم في صحيحه‏.‏

والثاني‏:‏ يقولها خمسًا وعشرين، ويضم إليها ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏ وقد رواه مسلم‏.‏

والثالث‏:‏ يقول‏:‏ الثلاثة ثلاثًا وثلاثين، وهذا على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يقول كل واحدة ثلاثًا وثلاثين‏.‏

والثاني‏:‏ أن يقول كل واحدة إحدي عشرة مرة، والثلاث والثلاثون في الحديث المتفق عليه في الصحيحين‏.‏

والخامس‏:‏ يكبر أربعًا وثلاثين ليتم مائة‏.‏

والسادس‏:‏ يقول‏:‏ الثلاثة عشرًا عشرًا‏.‏ فهذا هو الذي مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك مناسب؛ لأن المصلي يناجي ربه‏.‏ فدعاؤه له، ومسألته إياه، وهو يناجيه أولي به من مسألته ودعائه بعد انصرافه عنه‏.‏

/وأما الذكر بعد الانصراف، فكما قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ هو مثل مسح المرآة بعد صقالها، فإن الصلاة نور، فهي تصقل القلب كما تصقل المرآة، ثم الذكر بعد ذلك بمنزلة مسح المرآة، وقد قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏، قيل‏:‏ إذا فرغت من أشغال الدنيا فانصب في العبادة، وإلى ربك فارغب‏.‏ وهذا أشهر القولين‏.‏ وخرج شريح القاضي على قوم من الحاكة يوم عيد وهم يلعبون فقال‏:‏ ما لكم تلعبون‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا تفرغنا، قال‏:‏ أو بهذا أمر الفارغ‏؟‏ وتلا قوله تعالي‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏‏.‏ ويناسب هذا قوله تعالي‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏إلي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1، 7‏]‏، أي ذهابًا ومجيئًا، وبالليل تكون فارغا‏.‏ وناشئة الليل في أصح القولين‏:‏ إنما تكون بعد النوم، يقال‏:‏ نشأ إذا قام بعد النوم؛ فإذا قام بعد النوم، كانت مواطأة قلبه للسانه أشد لعدم ما يشغل القلب، وزوال أثر حركة النهار بالنوم، وكان قوله‏:‏ ‏{‏وَأَقْوَمُ‏}‏‏.‏

وقد قيل‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ‏}‏ من الصلاة، ‏{‏فَانصَبْ‏}‏ في الدعاء، ‏{‏وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ وهذا القول سواء كان صحيحًا أو لم يكن، فإنه يمنع الدعاء في آخر الصلاة، لاسيما والنبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور بهذا، فلابد أن يمتثل ما أمره الله به‏.‏

/ودعاؤه في الصلاة المنقول عنه في الصحاح وغيرها، إنما كان قبل الخروج من الصلاة‏.‏ وقد قال لأصحابه في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إذا تشهد أحدكم، فليستعذ باللَّه من أربع؛ يقول‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏)‏‏.‏

وفي حديث ابن مسعود الصحيح لما ذكر التشهد قال‏:‏ ‏(‏ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه‏)‏، وقد روت عائشة وغيرها دعاءه في صلاته بالليل، وأنه كان قبل الخروج من الصلاة‏.‏

فقول من قال‏:‏ إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، يشبه قول من قال في حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد‏:‏ فإذا فعلت ذلك، فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد‏.‏ وهذه الزيادة سواء كانت من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو من كلام من أدرجها في حديث ابن مسعود، كما يقول ذلك من ذكره من أئمة الحديث، ففيها أن قائل ذلك جعل ذلك قضاء للصلاة، فهكذا جعله هذا المفسر فراغًا من الصلاة، مع أن تفسير قوله‏:‏ ‏{‏فّإذّا فّرّغًتّ فّانصّبً‏}‏ أي‏:‏ فرغت من الصلاة قول ضعيف؛ فإن قوله‏:‏ إذا فرغت مطلق، ولأن الفارغ إن أريد به الفارغ من العبادة، فالدعاء أيضًا عبادة، وإن أريد به الفراغ من/ أشغال الدنيا بالصلاة، فليس كذلك‏.‏

يوضح ذلك أنه لا نزاع بين المسلمين أن الصلاة يدعي فيها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيها، فقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح‏:‏ ‏(‏اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد‏)‏ وأنه كان يقول‏:‏ ‏(‏اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت‏)‏‏.‏

وثبت عنه في الصحيح أنه كان يدعو إذا رفع رأسه من الركوع، وثبت عنه الدعاء في الركوع والسجود، سواء كان في النفل أو في الفرض، وتواتر عنه الدعاء آخر الصلاة‏.‏ وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ يا رسول الله، علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏)‏ فإذا كان الدعاء مشروعا في الصلاة لاسيما في آخرها، فكيف يقول‏:‏ / إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، والذي فرغ منه هو نظير الذي أمر به، فهو في الصلاة كان ناصبا في الدعاء، لا فارغا‏.‏ ثم إنه لم يقل مسلم‏:‏ إن الدعاء بعد الخروج من الصلاة يكون أوكد وأقوي منه في الصلاة، ثم لو كان قوله‏:‏ ‏{‏فَانصَبْ‏}‏ في الدعاء، لم يحتج إلى قوله‏:‏ ‏{‏وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏؛ فإنه قد علم أن الدعاء إنما يكون للَّه‏.‏

فعلم أنه أمره بشيئين‏:‏ أن يجتهد في العبادة عند فراغه من أشغاله، وأن تكون رغبته إلى ربه لا إلى غيره كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏، موافق لقوله‏:‏ ‏{‏فَانصَبْ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، موافق لقوله‏:‏ ‏{‏وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏، وقول شعيب ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏، ومنه الذي يروي عند دخول المسجد‏:‏ ‏(‏اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وأفضل من سألك ورغب إليك‏)‏، والأثر الآخر‏:‏ وإليك الرغباء والعمل، وذلك أن دعاء الله المذكور في القرآن نوعان‏:‏ دعاء عبادة، ودعاء مسألة ورغبة، فقوله‏:‏ ‏{‏فَانصَبْ وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏، يجمع نوعي دعاء الله، قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 19‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ‏}‏ الآية ‏[‏المؤمنون‏:‏ 117‏]‏، ونظائره كثيرة‏.‏

/وأما لفظ ‏[‏دبر الصلاة‏]‏، فقد يراد به آخر جزء منه، وقد يراد به ما يلي آخر جزء منه‏.‏ كما في دبر الإنسان، فإنه آخر جزء منه، ومثله لفظ ‏[‏العقب‏]‏ قد يراد به الجزء المؤخر من الشيء، كعقب الإنسان، وقد يراد به ما يلي ذلك‏.‏ فالدعاء المذكور في دبر الصلاة إما أن يراد به آخر جزء منها ليوافق بقية الأحاديث، أو يراد به ما يلي آخرها، ويكون ذلك ما بعد التشهد كما سمي ذلك قضاء للصلاة وفراغا منها حيث لم يبق إلا السلام المنافي للصلاة، بحيث لو فعله عمدًا في الصلاة بطلت صلاته، ولا تبطل سائر الأذكار المشروعة في الصلاة، أو يكون مطلقا أو مجملا‏.‏ وبكل حال، فلا يجوز أن يخص به ما بعد السلام؛ لأن عامة الأدعية المأثورة كانت قبل ذلك، ولا يجوز أن يشرع سنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة بالألفاظ الصريحة‏.‏

والناس لهم في هذه فيما بعد السلام ثلاثة أحوال‏:‏

منهم من لا يرى قعود الإمام مستقبل المأمـوم لا بذكر ولا دعــاء ولا غير ذلك، وحجتهم ما يروي عن السلف أنهم كانوا يكرهون للإمام أن يستديم استقبال القبلة بعد السلام، فظنوا أن ذلك يوجب قيامه من مكانه، ولم يعلموا أن انصرافه مستقبل المأمومين بوجهه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل يحصل هذا المقصود، / وهذا يفعله من يفعله من أصحاب مالك‏.‏

ومنهم من يرى دعاء الإمام والمأموم بعد السلام، ثم منهم من يرى ذلك في الصلوات الخمس، ومنهم من يراه في صلاة الفجر والعصر، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب الشافعي وأحمد، وغيرهم، وليس مع هؤلاء بذلك سنة، وإنما غايتهم التمسك بلفظ مجمل، أو بقياس، كقول بعضهم‏:‏ ما بعد الفجر والعصر ليس بوقت صلاة، فيستحب فيه الدعاء‏.‏ ومن المعلوم أن ما تقدمت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة الصحيحة، بل المتواترة لا يحتاج فيه إلى مجمل، ولا إلى قياس‏.‏

وأما قول عقبة بن عامر‏:‏ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة، فهذا بعد الخروج منها‏.‏

وأما حديث أبي أمامة‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله أي الدعاء أسمع‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏جوف الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبة‏)‏، فهذا يجب ألا يخص ما بعد السلام، بل لابد أن يتناول ما قبل السلام‏.‏ وإن قيل‏:‏ أنه يعم ما قبل السلام وما بعده، لكن ذلك لا يستلزم أن يكون دعاء الإمام والمأموم جميعًا بعد السلام سنة، كما لا يلزم مثل ذلك قبل السلام، بل إذا دعا كل واحد وحده بعد السلام، فهذا لا يخالف السنة‏.‏ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل‏:‏ / ‏(‏لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول‏:‏ اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك‏)‏، يتناول ما قبل السلام‏.‏ ويتناول ما بعده ـ أيضًا ـ كما تقدم‏.‏ فإن معاذًا كان يصلي إمامًا بقومه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إماما، وقد بعثه إلى اليمن معلما لهم، فلو كان هذا مشروعًا للإمام والمأموم مجتمعين على ذلك، كدعاء القنوت، لكان يقول‏:‏ اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، فلما ذكره بصيغة الإفراد، علم أنه لا يشرع للإمام والمأموم ذلك بصيغة الجمع‏.‏

ومما يوضح ذلك ما في الصحيح عن البراء بن عازب قال‏:‏ كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، قال‏:‏ فسمعته يقول‏:‏ ‏(‏رب قني عذابك يوم تبعث عبادك، أو يوم تجمع عبادك‏)‏، فهذا فيه دعاؤه صلى الله عليه وسلم بصيغة الإفراد، كما في حديث معاذ، وكلاهما إمام‏.‏

وفيه‏:‏ أنه كان يستقبل المأمومين، وأنه لا يدعو بصيغة الجمع، وقد ذكر حديث معاذ بعض من صنف في الأحكام‏:‏ في الأدعية في الصلاة قبل السلام، موافقة لسائر الأحاديث، كما في مسلم، والسنن الثلاثة، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير، فليتعوذ باللَّه من أربع‏:‏ من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ‏)‏‏.‏

/وفي مسلم وغيره عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال‏)‏‏.‏

وفي السنن أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل‏:‏ ما تقول في الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ أتشهد، ثم أقول‏:‏ اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما والله ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حولهما ندندن‏)‏، رواه أبو داود وأبو حاتم في صحيحه، وظاهر هذا أن دندنتهما ـ أيضًا ـ بعد التشهد في الصلاة، ليكون نظير ما قاله‏.‏ وعن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته‏:‏ ‏(‏اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليما، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم‏)‏ رواه النسائي‏.‏

وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات‏.‏ اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم‏)‏ فقال له قائل‏:‏ ما أكثر ما تستعيذ /يا رسول الله من المغرم، قال‏:‏ ‏(‏إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف‏)‏‏.‏

قال المصنف في الأحكام‏:‏ والظاهر أن هذا يدل على أنه كان بعد التشهد‏.‏ يدل عليه حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد التشهد‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال‏)‏‏.‏ وقد تقدم حديث ابن عباس الذي في الصحيحين أنه كان يعلمهم هذا الدعاء، كما يعلمهم السورة من القرآن‏.‏ وحديث أبي هريرة وأنه يقال بعد التشهد‏.‏ وقد روي في لفظ الدبر ما رواه البخاري وغيره عن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر‏)‏‏.‏

وفي النسائي عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الصــلاة‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر‏)‏‏.‏ وفي النسائي ـ أيضًا ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ دخلت على /امرأة من اليهود‏.‏ فقالت‏:‏ إن عذاب القبر من البول، فقلت‏:‏ كذبت‏.‏ فقالت‏:‏ بلي، إنا لنقرض منه الجلود والثوب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وقد ارتفعت أصواتنا، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا‏)‏ فأخبرته بما قالت، قال‏:‏ ‏(‏صدقت‏)‏ فما صلى بعد يومئذ، إلا قال في دبر الصلاة‏:‏ ‏(‏اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، أجرني من حر النار، وعذاب القبر‏)‏‏.‏

قال المصنف في ‏[‏الأحكام‏]‏‏:‏ والظاهر أن المراد بدبر الصلاة في الأحاديث الثلاثة قبل السلام توفيقًا بينه وبين ما تقدم من حديث ابن عباس، وأبي هريرة‏.‏ قلت‏:‏ وهذا الذي قاله صحيح، فإن هذا الحديث في الصحيح من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت لها‏:‏ أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة ـ رضي الله عنها ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال‏:‏ ‏(‏نعم عذاب القبر حق‏)‏‏.‏ قالت عائشة‏:‏ فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر‏.‏ والأحاديث في هذا الباب يوافق بعضها بعضا وتبين ما تقدم‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ عن جماعة يسبحون الله، ويحمدونه، ويكبرونه عقب الصلاة، هل ذلك سنة أم مكروه‏؟‏ وربما في الجماعة من يثقل بالتطويل من غير ضرورة‏؟‏

فأجاب‏:‏

التسبيح والتكبير عقب الصلاة مستحب، ليس بواجب‏.‏ ومن أراد أن يقوم قبل ذلك فله ذلك، ولا ينكر عليه‏.‏ وليس لمن أراد فعل المستحب أن يتركه، ولكن ينبغي للمأموم ألا يقوم حتى ينصرف الإمام، أي ينتقل عن القبلة، ولا ينبغي للإمام أن يقعد بعد السلام مستقبل القبلة إلا مقدار ما يستغفر ثلاثًا، ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام‏)‏‏.‏ وإذا انتقل الإمام فمن أراد أن يقوم قام، ومن أحب أن يقعد يذكر الله فعل ذلك‏.‏

/وَقَال شَيْخ الإسْلاَم أحْمَد بن تيمية ـ رحمه اللّه‏:‏

 فَصْــل

وعد التسبيح بالأصابع سنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء‏:‏ ‏(‏سبحن واعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات مستنطقات‏)‏‏.‏ وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك، فحسن‏.‏ وكان من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من يفعل ذلك، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين تسبح بالحصى، وأقرها على ذلك، وروي أن أبا هريرة كان يسبح به‏.‏

وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز، ونحوه، فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا أحسنت فيه النية، فهو حسن غير مكروه، وأما اتخاذه من غير حاجة، أو إظهاره للناس ـ مثل تعليقة في العنق، أو جعله كالسوار في اليد، أو نحو ذلك ـ فهذا إما رياء للناس، أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة‏.‏ الأول محرم، والثاني أقل أحواله الكراهة؛ فإن مراءاة الناس في العبادات المختصة كالصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن من أعظم الذنوب، قال الله/تعالي‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 4، 7‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إلى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَي يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏

فأما المرائي بالفرائض، فكل أحد يعلم قبح حاله، وأن الله يعاقبه لكونه لم يعبده مخلصًا له الدين، والله تعالي يقول‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ‏}‏ ‏[‏الزمر2، 3‏]‏ فهذا في القرآن كثير‏.‏

وأما المرائي بنوافل الصلاة والصوم والذكر وقراءة القرآن، فلا يظن الظان أنه يكتفي فيه بحبوط عمله فقط، بحيث يكون لا له ولا عليه، بل هو مستحق للذم والعقاب، على قصده شهرة عبادة غير الله؛ إذ هي عبادات مختصة، ولا تصح إلا من مسلم، ولا يجوز إيقاعها على غير وجه التقرب، بخلاف ما فيه نفع العبد، كالتعليم والإمامة، فهذا في الاستئجار عليه نزاع بين العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ عن قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة في جماعة، هل هي مستحبة أم لا‏؟‏ وما كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏(‏دبر كل صلاة‏)‏‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للَّه، قد روي في قراءة آية الكرسي عقيب الصلاة حديث، لكنه ضعيف؛ ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها، فلا يمكن أن يثبت به حكم شرعي‏.‏ ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفاؤه يجهرون بعد الصلاة بقراءة آية الكرسي، ولا غيرها من القرآن، فجهر الإمام والمأموم بذلك، والمداومة عليها، بدعة مكروهة بلا ريب، فإن ذلك إحداث شعار، بمنزلة أن يحدث آخر جهر الإمام والمأمومين بقراءة الفاتحة دائمًا، أو خواتيم البقرة، أو أول الحديد، أو آخر الحشر، أو بمنزلة اجتماع الإمام والمأموم ـ دائمًا ـ على صلاة ركعتين عقيب الفريضة، ونحو ذلك مما لا ريب أنه من البدع‏.‏

وأما إذا قرأ الإمام آية الكرسي في نفسه، أو قرأها أحد المأمومين، فهذا لا بأس به؛ إذ قراءتها عمل صالح، وليس في ذلك تغيير لشعائر / الإسلام، كما لو كان له ورد من القرآن والدعاء والذكر عقيب الصلاة‏.‏

وأما الذي ثبت في فضائل الأعمال في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الذكر عقيب الصلاة، ففي الصحيح عن المغيرة بن شعبة أنه كان يقول، دبر كل صلاة‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَد‏)‏‏.‏

وفي الصحيح ـ أيضًا ـ عن ابن الزبير؛ أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون‏)‏‏.‏ وثبت في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏من سبح دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبر ثلاثًا وثلاثين ـ وذلك تسعة وتسعون ـ وقال تمام المائة‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر‏)‏‏.‏

وقد روي في الصحيحين أنه يقول‏:‏ كل واحد خمسة وعشرين، ويزيد فيها التهليل، وروي أنه يقول كل واحد عشر، ويروي أحد عشر مرة، وروي أنه يكبر أربعًا وثلاثين‏.‏ وعن ابن عباس، أن رفع/الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس‏:‏ كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ما كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير‏.‏ فهذه هي الأذكار التي جاءت بها السنة في أدبار الصلاة‏.‏

 وَسُئِلَ ـ رَحمه الله ـ عمن يقول‏:‏ أنا أعتقد أن من أحدث شيئًا من الأذكار غير ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنه، أنه قد أساء وأخطأ، إذ لو ارتضى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيه وإمامه ودليله لاكتفى بما صح عنه من الأذكار، فعدوله إلى رأيه واختراعه جهل، وتزيين من الشيطان، وخلاف للسنة؛ إذ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك خيرًا، إلا دلنا عليه وشرعه لنا، ولم يدخر الله عنه خيرًا؛ بدليل إعطائه خير الدنيا والآخرة؛ إذ هو أكرم الخلق على الله فهل الأمر كذلك أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للَّه، لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات‏.‏ والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوي/والابتداع‏.‏ فالأدعية والأذكار النبوية، هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة‏.‏ والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبر عنه لسان، ولا يحيط به إنسان‏.‏ وما سواها من الأذكار قد يكون محرمًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون فيه شرك مما لا يهتدي إليه أكثر الناس، وهي جملة يطول تفصيلها‏.‏

وليس لأحد أن يسن للناس نوعا من الأذكار والأدعية غير المسنون ويجعلها عبادة راتبة يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس، بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به، بخلاف ما يدعو به المرء أحيانًا من غير أن يجعله للناس سنة، فهذا إذا لم يعلم أنه يتضمن معني محرمًا، لم يجز الجزم بتحريمه، لكن قد يكون فيه ذلك، والإنسان لا يشعر به‏.‏ وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت، فهذا وأمثاله قريب‏.‏

وأما اتخاذ وِرْد غير شرعي، واستنان ذكر غير شرعي، فهذا مما ينهى عنه‏.‏ ومع هذا، ففي الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة، ونهاية المقاصد العلية، ولا يعدل عنها إلى غيرها من الأذكار المحدثة المبتدعة إلا جاهل أو مفرط أو متعد‏.‏

/ وسئل ـ رَحمه الله ـ عن الدعاء عقيب الصلاة هل هو سنة أم لا‏؟‏ ومن أنكر على إمام لم يدع عقيب صلاة العصر هل هو مصيب أم مخطئ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للَّه، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو هو والمأمومون عقيب الصلوات الخمس، كما يفعله بعض الناس عقيب الفجر والعصر‏.‏ ولا نقل ذلك عن أحد، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة‏.‏ ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه، ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك، وكذلك أحمد وغيره من الأئمة لم يستحبوا ذلك‏.‏

ولكن طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر‏.‏ قالوا‏:‏ لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما، فتعوض بالدعاء عن الصلاة‏.‏

واستحب طائفة أخري من أصحاب الشافعي وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه، / ومن أنكر عليه فهو مخطئ باتفاق العلماء‏.‏ فإن هذا ليس مأمورا به، لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب، في هذا الموطن‏.‏ والمنكر على التارك أحق بالإنكار منه، بل الفاعل أحق بالإنكار‏.‏ فإن المداومة على ما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعا، بل مكروه، كما لو داوم على الدعاء قبل الدخول في الصلوات، أو داوم على القنوت في الركعة الأولي، أو في الصلوات الخمس، أو داوم على الجهر بالاستفتاح في كل صلاة، ونحو ذلك، فإنه مكروه‏.‏ وإن كان القنوت في الصلوات الخمس قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا، وقد كان عمر يجهر بالاستفتاح أحيانًا، وجهر رجل خلف النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك، فأقره عليه، فليس كل ما يشرع فعله أحيانًا تشرع المداومة عليه‏.‏

ولو دعا الإمام والمأموم أحيانا عقيب الصلاة لأمر عارض، لم يعد هذا مخالفًا للسنة، كالذي يداوم على ذلك‏.‏ والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو دبر الصلاة قبل السلام، ويأمر بذلك‏.‏ كما قد بسطنا الكلام على ذلك، وذكرنا ما في ذلك من الأحاديث، وما يظن أن فيه حجة للمنازع في غير هذا الموضع؛ وذلك لأن المصلي يناجي ربه، فإذا سلم انصرف عن مناجاته‏.‏ ومعلوم أن سؤال السائل لربه حال مناجاته هو الذي يناسب، دون سؤاله/ بعد انصرافه‏.‏ كما أن من كان يخاطب ملكا أو غيره فإن سؤاله وهو مقبل على مخاطبته، أولي من سؤاله له بعد انصرافه‏.‏